تيفرت نايت حمزة : العقليات بين الواقع والحلم
ذات مساء كالعادة جلسنا نتجاذب أطراف الحديث حول مواضيع شتى وكان جو من المرح يطغى على المكان وكان بيننا شباب متعلمون من المجلس الجماعي المحلي..بدأنا في نقاش حصيلة هذا المجلس التي تبدو الأضعف على الإطلاق إلى حد الآن..بدا مسار النقاش يتغير من المرح إلى الجد حين بادر احدنا فطرح سؤالا أراه جوهريا على احد الأعضاء قائلا .. لماذا انتم مشلولين؟ القرية تسير من سئ إلى أسوا وبطونكم في انتفاخ؟ماذا يحدث بالضبط؟
استوى صديقي ولاحظت احمرارا على وجهه فأجاب بعد هنيهة بعدما لاحظ أن الجميع ينتظر جوابه : سبب الشلل واضح‘كل عضو منهمك في البحث عن ثقب من اجل استرجاع المبلغ الذي سلبه منه أهل دائرته أيام الانتخابات..كل عضو يسمح لبني دائرته الانتخابية أن يجلدوه قبل الانتخابات ليأتي دورهم فيرد لهم الصاع صاعين..هكذا تسير الأمور ويجب أن تفهموها على هذا النحو .. هنا تدخلت فسألته : ألا تخشى أن ينقلب عليك أهل دائرتك يوم الانتخابات وأنت الذي لا تفعل أي شئ لصالحهم؟ فكر مليا وأجابني بابتسامة شريرة : ناس دائرتي أميون، لا حول لهم ولا قوة، تعطيهم منذ الآن فينسون، فهم لا يحاسبونك عن عملك في المجلس بل يحاسبونك عن ما في جيبك وعن استطاعتك حبس غضب حارس الغابة _ بوغابة _ ورجال الدرك .. يحبون أن ترسم لهم الأحلام ولو كانت مجنونة .. يتذكرون ما أعطوا وينسون ما اخذوا ويتذكرون من أساء إليهم وينسون من اساؤوا إليه .. ولأني اعرفهم جيدا فاني ادخر كل نشاطي إلى أيام الحملة والانتخابات .. حينئذ اشتري أصواتهم بما جمعته طيلة مدة ولايتي .. هكذا العب بكل بساطة‘الست بلاعب جيد؟ قلت له : أتذكر انك كنت حارس مرمى جيد .. فاستطرد قائلا : أناس هذه القبيلة ينقصهم الوعي الكبير بحقوقهم وواجباتهم -فهم أميون وفقراء وهم يتلذذون بذلك .. بعض العقول المتعلمة تحاول الحفاظ على هذا الوضع لأنها تستفيد منه .. الاتعرف أن هناك من أوصلته أمية وفقر هؤلاء إلى البرلمان؟؟
وقفت مشدوها وانأ أتابع حديث صديقي الذي يبدو مقتنعا بما يقوله..لم أحاول أن أقاطعه أو أناقشه لأترك له المجال ليفرغ ما في جعبته ولما انتهى اكتشفت انه اعتنق أفكارا نفعية علمته أن يهتم بالكرسي أكثر من الإنسان نفسه..سكوتي شجعه على المضي فاستطرد قائلا : الانتخابات في هذه القرية الحبيبة تجارة مربحةّ، اشتري أصواتهم وأبيعها عندما أجد من يدفع أكثر ... ولكن، "أين دوركم كشباب متنور في تغيير ومحو معالم الهشاشة التي تنخر عقول وواقع أبناء قريتك، ألا يحز هذا في نفسك؟ ألا تخاف أن يحاسبك أولادك يوما ما؟ الست مستعدا أن تضحي ليعيش أولادك في المستقبل حياة تليق بآدميتهم؟ أحس صديقي بحرج أمام القوة الأخلاقية لهذه الأسئلة فسكت ولم يعقب،لأنه كان أيام كان فاعلا جمعويا لا يمر يوم دون أن يذكرنا بأنه يطمح أن يغير معالم هذه القرية لتصبح من بين القرى الرائدة في الإقليم حيث كان يحلم أن يعيش جميع بني قبيلته في رخاء وبحبوحة دائمين .. تدارك عضو آخر الموقف فأجاب بنبرة حادة:"كيف تريدني أن أغير من يريد أن أدافع بما املك لأنه قطع واستغل الملك الغابوي بدون وجه حق؟ كيف تريد أن أغير من يطلب مني آن اشهد الزور لصالحه لأنه ظلم أو أكل مال غيره بالباطل؟ كيف تريدني أن أغير من يتنفس الوشاية صباح مساء؟بربك قل لي ... قل لي كيف تريدني أن أحقق المستحيل..
هنا فهمت لماذا يتصرف جل أعضاء المجالس الجماعية بسادية اتجاه بني جلدتهم .. فهمت لماذا لا يستحيي بعض الأعضاء نهب خيرات هذه القرية المغلوبة على أمرها دون أن يحس بأدنى ذرة حرج أو خوف من الله .. فهمت أن التغيير لازال بعيدا .. فهمت آن المهدي المنتظر لهذه الأم لم يولد بعد..
وانأ غارق في هذا المونولوج، ساكت أحاول فهم سر هذه الرغبة في الانتقام التي سيطرت على عقول هؤلاء الأصدقاء ،نبهني احدهم فقال لي :"ما قولك؟" أجبته بكل تلقائية "أنا لا استطيع أن ألوم ركاب السفينة لأنها نحت اتجاها خاطئا.. الربان هو من يتحمل المسؤولية الكاملة في ذلك..اعني إذا صلح حالكم انتم الذين تقودون دفة هذه الجماعة فان أحوال الناس ستصلح .. صحيح إن أفق اغلب الناس ضيق،يطلبون ماهو آني نضرا لاميتهم وفقرهم وهم معذورون في ذلك، وهذا لا يجب أن يكون مبررا لاستغلالهم بهذه البشاعة .. دوركم يا أصدقائي هو تغيير نمط هذا التفكير وذلك بفتح آفاق واو راش واعدة من شانها أن تحارب الأمية والبطالة وتبعث التفاؤل والثقة اللذان أصبحا عملة نادرة في هذه القرية .. تحتاج تفرت نأيت حمزة لأناس يؤمنون أولا بفكرة التغيير ، ويؤمنون كذلك بان الاستثمار في الإنسان هو أساس كل تغيير منشود..تدخل مقاطعا بنبرة حادة "ماذا تعني بفكرة الاستثمار في الإنسان؟ عن أي إنسان تتحدث؟ هل أعطيك مثالا؟أجبته قائلا"أنا ابن هذه الأم الحبيبة ، أحبها وأحب إخوتي رغم أن بعضهم عاق سامحهم الله. اعرف بنو قبيلتي جيدا..اعرف أن تقاليدهم راسخة ولكن هذا لا يمنع محاولة تغييرهم لما هو أحسن .. أما ماذا اعني بالاستثمار في الإنسان فهو بكل بساطة إشراك الإنسان المحلي في تنمية واقعه..كيف؟بان يبادر كل عضو إلى تأسيس جمعية في دائرته الانتخابية هدفها تحسين الأوضاع المادية والمعنوية لناخبيه وذلك بفعل انخراطا تهم التي ستكون سخية لأنهم يعرفون أن نفعها سيعود عليهم شخصيا وذلك بتأسيس مقاولات صغيرة سيستفيد منها الآباء والأبناء بعدهم .. بالإضافة إلى هذا الانتفاع المادي ،سيحاول كل عضو البحث عن شراكات مع جمعيات مستعدة أن تساهم بخبرتها في مجال التنمية المستدامة .. بهذا سيحس الإنسان البسيط انه فاعل ايجابي داخل دائرته الصغيرة وبالتالي سيسترجع ثقته في نفسه وفي إخوانه ومحيطه .. حينئذ سيسمو ويترفع عن التفكير الوحداني لصالح التفكير الوحدوي الجماعاتي..وفي مثل هذه الظروف سيكون دور الجماعة المحلية مكملا حيث ستتكلف بخلق مشاريع خاصة من شانها الاستثمار في هذا المناخ الواعد..
وبهذا ستسترجع الأم العزيزة تيفرت نأيت حمزة ابتسامتها البراقة والمفقودة منذ أمد طويل عندما ترى جميع أولادها واضعين أيديهم في أيدي بعض من اجل تحقيق تنمية مستدامة ستعود بالنفع عليهم وعلى أولادهم مستقبلا .. وهل هناك شئ أحلى من هذا؟
انه حلم بسيط ولن يصعب تحقيقه، إلا انه يحتاج إلى طينة خاصة من الفاعلين في الجماعة المحلية والمجتمع المدني..
المراسل
موضوع منقول